من السجن المحلي بأيت ملول بيوم 29 أبريل 2017
بقلم : عبد الرحيم إدوصالح ⵄⴱⴷⵔⴰⵃⵉⵎ ⵉⴷⵓⵚⴰⵍⵃ Abderrahim Idoussalah
بعد الواقعة الرهيبة التي راح ضحيتها الشاب "محسن فكري" و ردود الأفعال الناتجة عنها، اخترت عدم التسرع، فقررت الإنتظار و ترقب الوضع وما ستؤول إليه الأحداث توخيا للعقلانية، و تجرداً من العاطفة خصوصا و أن الحدث لم يكن معزولا، فقد كان موازيا لتطورات اجتماعية سياسية مهمة، غير أن الواقعة، و لشدة وحشيتها، و لهول الفزع الذي أحدثته، كانت قد جدبت الأنظار أكثر من غيرها. لكن الآن، و في هذه اللحظة بالذات، وجب التوقف عند قضية "محسن فكري"، أولا لفهمها بشكل بنيوي يحاول إعادة قراءتها و يربطها بسياقها العام، و ثانيا باعتبارها قضية سياسية نحاول عبرها تجديد النضال السياسي بأن يتحول من نضال ضد "القائد" أو "العامل" أو "المقدم" أو "الشيخ" أو "عامل نظافة" أو "الدركي" أو "الشرطي"، نحو نضال سياسي ديموقراطي ضد " القائد الأول" و المسؤول الأول في الوطن، نضال سياسي يحول صراعه نحو من تجتمع كل السلط بيديه، من كان من المفترض به حماية حياة و سلامة المواطنين و كرامتهم.
يتحمل المركز/ السلطان كامل المسؤولية الأخلاقية القانونية في ما يقع في المجتمع المغربي و من خلاله ما وقع "لمحسن" آخدين هنا بعين الاعتبار كون المتسببين المباشرين في الجريمة النكراء موظفين لدى الدولة، يملكون سلطة و يعملون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تحت إمرة وزارة الداخلية، الموكولة إليها تاريخيا مهمة رقابة و زجر المواطنين، فالداخلية ليست سوى خادمة القصر اليمنى، بالتالي لا مناص من تحمله لمسؤولية المجازر التي اقترفتها هذه المؤسسة، إنْ في الماضي أو حاضرنا اليوم، مؤسسة تربى العاملون بها على تقديس السلطان عوض الوطن، و الولاء للحاكم عوض الإنسانية و القانون، فلجم الأفواه الصارخة بالرفض يمنح المستخدم ترقية و امتيازا، و سلوكه هذا يؤكد ولاءه و أهليته لممارسة عمله و الاستمرار فيه، هم طبقة تتلذذ بالتعذيب و التقتيل، تأتي على اليابس و اليانع حين يتعلق الأمر بالمساس بشخص الحاكم و ليس لأنهم يحبونه، أو يقدسونه، أو لاعتقادهم بأن همجيتهم تحمي النظام العام، بل لأنهم يعتبرون المساس بالمستبد هو مساس مباشر بمصالحهم، إن الحاكم ثدي يرضعون فيه دون توقف، هم يعرفون أن الثدي لا ينضب من العطايا و الامتيازات. و حين يتأكد "المقدم" أو "الشيخ" أو "الخليفة" أو "القائد" و غيرهم، حين يتأكد أنه أدى فرض الطاعة لسيده عن طريق الضرب على أيدي المعارضين الرافضين للاستكانة، فإنه يموقع ذاته كحاكم جديد على ولايته الصغيرة : "القيادة"، "الجماعة"، "النطاق الترابي" ...، فيبدأ عمله في ما يخدم مصلحته الذاتية و بنفس القمع و الاستغلال و توظيف السلطة و المكانة ليصبح الكل تحت رحمته، فيبني الثروة على رقاب الجياع، هي ثروة من الدم، بها يحيى الحكام و خدامهم الأوفياء.
إن بنية الحكم لدينا، بنية تركيع و تسلط، حُكم فاسد بكل المقاييس، لهذا وجب توجيه النقد للبنية كلها، و لمركزها بالتحديد، فكل العنف يصدر من هناك، و كل الحقد يأتي من الأعلى، و مادام الحد من العنف و الحقد لن يصير إلا بالقانون و شرعيته، فإن الحكام المستبدين يتهربون منه دوما، و يفعلون كل الأفاعيل كي يبقوا فوقه، متعالين عليه، فأعتبر أن الشعار الملائم و الواقعي الذي يجب على المثقفين حمله هو النضال ضد الاستبداد، و بناء مجتمع ينتقل من سيادة الأشخاص إلى سيادة القانون، إذاك و فقط ينتهي الفساد و يزول زمن القهر المتعجرف.
"محسن" كان ضحية النية الفاسدة التي تريد احتكار الاقتصاد و التجارة لنفسها، "محسن" كان ضحية نظام يحتكم لقانون الذئاب التي لا تتوانى عن الاقتيات بإخوتها، "محسن" ليس بداية، و لن يكون هو النهاية.
كل المواطنين هم، في المستقبل مشاريع "مَفْرومين" إن لم يتوقف هذا السيل الجارف الآتي من أنانيات أشخاص لا برون أحقية الوجود إلا لذواتهم، المواطن مشروع "مفرومٍ"، بعد أن بدأت العملية بنهب جيوب البسطاء عن طريق الغلاء و البطالة، و الاستهتار بالعقول، و تشجيع الأمية الفكرية و المعرفية، عن طريق هدم المنظومة التعليمية ماديا و معنويا، فخلقت لنا شخوصا لا موقف لها، أحيانا دون هدف، دون إحساس بالمسؤولية، دون وعي بالحق في الكرامة و الحرية، أجيال تسهل السيطرة عليها و الكذب عليها و احتواءها، الشعب "مفروم" عن طريق إعلام مبتذل يمسح الأرض بضمائر الناس و عقولهم، إعلام يجعل من مشاهديه قطعانا لا تفكر بل تحمل الأثقال فقط. و لا مبالغة في القول بأن الجميع سيلقى مصير "محسن" يوما، مادامت الدولة لا تكون أطرها و خدامها تكوينا يستمد مرجعيته و مفاهيمه من ثقافة حقوق الإنسان، مادام الدرس الأول الذي يلقنه لهم المؤطرون يتحدد في قدسية الولاء للحاكم وحده، تكوين ينقدم فيه الوطن بمعناه الحقيقي، الإنساني و التاريخي، أي وطن غير مرتبط بالأفراد والأشخاص. إن الكل مهدد بأن يتم طحنه مع النفايات أو يحمل جثمانه على شاحنة النفايات بعد أن يغرق إثر كارثة طبيعية كما حدث قبل سنوات، الكل في لائحة الانتظار مادام هذا النظام و مؤسساته تفرّخ عبيد المال و السلطان، عوض تكوين أطر إنسانية قادرة على القيام بمهامها، فتمارس القانون و تسهر على تطبيقه على الجميع، و ليس على الكادحين فقط، أيها البؤساء، استعدوا، فإنكم مفرومون، تماما مثل فقيدنا "محسن".
لقد كان الريف ضحية وعيه المبكر بكل هذه التناقضات، حين فهم اللعبة القذرة للأسر المسيطرة فقاومها، فكان عقابه التنكيل به وبأبنائه، تنكيل هو عبارة عن سلسلة من التعنيف المادي و المعنوي، و تفقير و عسكرة للمنطقة، و طرد للمناوئين و رقابة بوليسية على من قرر البقاء في الوطن، مع ما لحق ذلك من أضرار جسدية و نفسية بالأفراد و عائلاتهم، فقد شهد الريف و عبره ربوع الوطن مئات من أشباه "محسن" في الماضي القريب، مادامت نفس بنية استبداد اليوم، كانت قد حكمت في الماضي، و لم تكن بنية استبداد الماضي غير مدرسة تعلم على يدها سلطان اليوم، و عشيرته الأقربين.
لو أن الموظفين المتورطين في قضية "محسن" أحسوا و لو بالنزر القليل من رقابة قانونية صارمة تتبع عملهم و خطواتهم، و أنهم يتعرضون للمحاسبة و المسائلة، و أنه من المستحيل الإفلات من العقاب، لما تجرؤوا على القيام بما قاموا به، ووصلت بهم الوقاحة و الوحشية و الاستهتار بكل المواطنين و كرامتهم أن قاموا بجريمتهم رغم علمهم بوجود ألآت تصوير قد تلتقط قرائن جريمتهم، لكن إيمانهم المطلق بسموهم و دناءة "محسن" جعلهم يتجاوزون كل الحدود، فقتلوه أمام الملاء، فمن القادر على المخزن ؟ من يستطيع الوقوف في وجه خدام السدة العالية ب "اللـه " ؟ و كذلك فكر الجبناء.
إن التأمل في الحدث، ووضعه أمام مجهر العقل و المنطق و التحليل، يفصح عن مفارقة رهيبة مغزاها أن موظف الداخلية يعرف أن ما يمارسه من وحشية و جلد ليس إلا استمرارا لما تعلمه و تلقاه في أكاديميات و مدارس التكوين في الدولة الاستبداد و معاهدها التي تخرج موظفي المؤسسات الضبطية ( الأمن الوطني- الدرك الملكي-السجون- الإدارة الترابية..)، و عملية طحن "محسن" لا تعني للمجرمين الذين اقترفوها، غير عقاب لمن رفض الامتثال لأوامر ممثلي المخزن، هم خدام و بيادق يلعب بها المسؤول الأول و محيطه كما شاء و يسخرها لتنفيذ إستراتيجية السيادة المطلقة و الأبدية.
اقرأ ايضا: عبد الرحيم إيدوصالح معتقل القضية الأمازيغية
و تأسيسا على ذلك، لن نكون ممن يتأثرون بتقارير و أخبار صحافة الدناءة المسخرة لتبرير همجية الحكام، و لن تنطلي علينا مسرحية " محاكمة" الجناة، لأن الجناة الحقيقيين سبق أن حددناهم، و ما على شجعان هذا الوطن إلا أن يصرخوا في وجوههم، و يسخروا الصوت و القلم و كل شيء و كي يعلم المستبد أن زمن التخفي وراء المقدس قد ولى دون عودة.
أشارككم حزني و أنا أكتب هذه السطور، و أمامي صورة الصغيرة "إديا"، البراءة المؤودة بجشع المسؤولين و لا مبالات الحاكم بالوطن، طفلة كان ذنبها أنها و لدت بالجنوب الشرقي، معقل المقاومة ضد سلاطين المركز، و المغضوب عليه اليوم من طرف سلطان المركز. "إديا" ابنة المهمشين، لم تكن تحمل لقب "العلوي" أو "الفهري" أو "الفاسي" أو "بناني"، كان ذلك ذنبها الثاني و لا بد لكل مذنب أن يعاقب، فعاقبوها بأن أهملوها و حفروا قبرها فأراحوها من البؤس المنتظر
"إديا" و "محسن"، مثالان و صورتان لأبناء هذا الوطن و إنذار لما ستؤول إليه الأوضاع فيما بعد مالم نتبنى خطابا متجدرا يتخذ مواقف واضحة من الحاكم و زمرته، ما لم نعلن أنفسنا فداء للكرامة و الحق في الاستفادة من ثرواتنا. "إيديا" و "محسن" رمزان ينظافان "لعمر خالق" و غيره، كلهم ضحايا الريع و احتكار الثروة و قمع من لهم الحق فيها لإسكاتهم، ربما حان الوقت للخروج للشارع، وبطرق حضارية، وبمواقف جريئة، خروج يستهدف إعادة تقسيم الثروة، و تتبيث حقوق الإنسان، و سيادة القانون على السلطان و خدامه، و لندع جانبا الشعارات الهزيلة التي لا تغدوا أن يكون تأثيرها على المستبدين تأثير مداعبة الريشة لوجنتي صبي غرير، هي تدغدغه فقط، لينفجر مقهقها، وهي نفس القهقهة التي يتلقى بها الحاكم الشعارات المحتشمة لبعض من نُسبوا للنضال و الديموقراطية زورا.
إنها فرصة أخرى، و تجربة جديدة تمتحن "مثقفينا" و "سياسينا" و "مناضلينا"، هو امتحان للشجاعة و الجرأة و الوطنية الصادقة، "فمحسن" لم يمت كموقف، بعد أن اغتالوا جسده، و لنا جميعا أن نعلن الرفض للعبودية كما رفضها كل بما تسمح به ظروفه، و قدراته و مواقفه، فإذا مات "محسن" في الشارع، فإن موت الاستبداد كذلك آت، و سيكون الشارع كذلك، على يد أبناء الوطن الحقيقين؛ الديموقراطيون الحقيقيون .
عبد الرحيم إدوصالح
السجن المحلي لأيت ملول